آفاق.. كيف نحاور عولمة الاستكبار الأمريكي؟

 

حسين أحمد شحادة

 

ولم يكن رفض المقاومة  لمقولة التغريب منذ فجر النهضة العربية والإسلامية إلا تمرداً على واقع العبودية للغرب في صورة نظامه السياسي المتوحش. ما يعني أن التحدي الذي يواجه حوار الحضارات في لحظة السيادة الأميركية على العالم ليس في كيف يتصالح الإسلام مع أمريكا؟ بل كيف تتصالح أميركا مع الإسلام؟ وذلك بالاعتراف به شريكاً في بناء الحضارة الإنسانية فلا أحد من بين المسلمين يرفض العولمة الحضارية المستنيرة بأدب التثاقف والتعارف والتنافس من أجل سلام العالم وسلامة الإنسان. وإذا أردت تبسيط منطق هذا الرفض قلت إن العولمة التي يرفضها العالم الإسلامي ويقاومها هي عولمة الاستبداد التي تنزع إلى محو حريات الأمم والشعوب، وتذويب خصوصياتها الثقافية بقوة الآلة العسكرية، ونهمها الصارخ في إرغام المسلمين وغير المسلمين في عالم الجنوب على الانقياد لنموذجية المثال الأميركي تحت إغراءات ما يسمى بالديمقراطية والإصلاح والتغيير ومكافحة الإرهاب الذي تمّ تجنيده في كواليس الإدارة الأميركية ليصبح ذريعتها الجاهزة لاجتياح الكرة الأرضية من جميع جهاتها. وبوسع الباحث أن يرصد عشرات الكتب التي ألفت ومئات البرامج والندوات التي عقدت لتكريس مقولة ـ الإرهاب الإسلامي ـ المعادي لثقافة الغرب وحضارته لتصبح المخاوف المتبادلة بين الغرب والإسلام هي البوصلة التي ترسم سياسات المواجهة مع عدو افتراضي تمّ استفزازه بمثل استفزاز الثور بالمنديل الأحمر في حلبات فلسطين وأفغانستان والعراق وإيران وسواها من حواضر الاستهداف الأميركي ومطامعه. وبذلك يغدو العدو الوهمي عدواً حقيقياً يقضّ مضاجع الغرب ويضع بين يديه كامل مسوغات الحرب الوقائية أو الحرب الاستباقية ـ بتعبير الإدارة الأميركية المذعورة ـ من خطر التطرف الإسلامي الذي تربى وتغذى في محاضن أميركا نفسها منذ الحرب الباردة وحتى اشتعالاتها الحمراء على أرض منابع النفط الإسلامي وآباره المستنزفة بعقلية فلسفية ترى في الإسلام وشعوبه نقيضاً لجشع العولمة المادية. ‏الأمر الذي دفع الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق إلى إلفات نظر العالم بأن الغرب الاستعماري كان هو الطرف البادئ بالصدام والاستعمار المسبوق بتشويه صورة العرب والمسلمين وتزوير قيم الإسلام وثقافته، ولقد اتسمت الهجمات الغربية بالعنف والتركيز على العالم الإسلامي لأنه كان الاستثناء الذي واجه السيطرة الغربية الاستعمارية على الشرق.. غير أني أخالف الكاتب بأن هذا الغرب الاستعماري لم يكن مسيحياً بالمفهوم الديني الروحي لمصطلح مسيحية، لأنه استند في نزعته السياسية إلى رؤية للحداثة المنقطعة عن كل قيمة دينية وأخلاقية.. ويبدو لي أن مصطلح المسيحية التي أشار إليه الكاتب هي المسيحية المتصهينة المزروعة داخل البيت الأبيض والتي ترى في مشروعات الاحتلال الأميركي منطلقاً لحماية «إسرائيل».

 

وتحقيق النبوءة التوراتية، التي تجعل من «إسرائيل» الكبرى علامة إلهية من علامات مجيء المسيح المنتظر.. فما يجري الآن من فتح ملفات تقسيم العالم العربي وتجزئته إلى دويلات طائفية وعرقية بأدوات ما نراه من خطاب المعارضات السياسية لأنظمة العالم العربي والإسلامي ستكشف عن مساحة الألغام المزروعة داخل مخطط تفتيت الأوطان لمصلحة إمبراطورية الشرق الإسرائيلي الجديد وهكذا تنجلي الحقيقة في مشاهد الاصطراع الدموي بين المسلمين والإدارة الأميركية فما يعانيه العالم الإسلامي بل وما يعانيه عالم الجنوب من فقر وقهر واستبداد واحتلال، لم يكن إلا تعبيراً عن أزمة القيم الأخلاقية التي تلقي بظلال آثامها على معنى الحضارة ومعنى الإنسان.. ولا يسعني اختزال أزمة الوعي الإنساني بمعنى الحضارة ومعنى الإنسان باقتراح الإسلام بديلاً حضارياً لأن السؤال الحرج هو هل يملك الواقع الممزق والمشوه شرف النهوض لاسترداد معنى هذه الحضارة ومعنى هذا الإنسان؟ وإلى أن تستعيد الأمة الإسلامية كامل الشروط الموضوعية لهذا النهوض فإن التصادم بين المسلمين والإدارة الأميركية سيظل محتدماً في غابة الجهالات المتراشقة بنصوص النبوءات والنبوءات المضادة بين غرب لا نكاد نعرف عنه في الشرق إلا صورة مخالبه السياسية المنغرسة في لحم أرضنا المحتلة وبين إسلام لا يعرف عنه الغرب إلا صورته المختزلة بضجيج ما يسمى ـ بالإسلام السياسي ـ وهو مصطلح اخترعته الإدارة الأميركية نفسها لتبرير منطق حربها الجديدة ضد العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه..