هيلاري كلينتون: "تتفيه" السياسة الخارجية الأميركية
فؤاد عجمي
2012-08-19
هذا النص يمثل وجهة النظر الناقدة للسياسة الخارجية الاميركية من موقع اقرب الى الحزب الجمهوري، متهماً الثنائي اوباما – كلينتون بـ"تتفيه" السياسة الخارجية الاميركية.
قَطَعتْ نحو مليون ميل في الجو، والنفوذ الأميركي يتراجع.
مشهد هيلاري كلينتون وهي ترقص بحماسة على حلبة الرقص في جنوب أفريقيا يفضح البلادة الأخلاقية لرئيسة الديبلوماسية الأميركية. تلك الصورة تُخبر سكّان مدينة حلب المحاصرة في سوريا، الذين يتعرّضون للهجوم من نظام عديم الرحمة، كل ما يريدون معرفته عن قسوة السياسة الخارجية الأميركية.
السلطة الحقيقية في الشؤون الخارجية هي في يد البيت الأبيض، وتحديداً جهاز حملة أوباما. لقد أُخضِعَت القرارات الكبرى في السياسة الخارجية - العراق وأفغانستان، والمعركة المحتدمة في سوريا، والتحدّي الذي يطرحه النظام الإيراني - لحاجات الحملة. كل ما بقي للسيدة كلينتون هو الهرج والمرج وجدول الأسفار المحموم.
أثيرت ضجّة كبيرة حول الوقت الذي أمضته في الجو. إنها الآن رسمياً وزيرة الخارجية الأكثر سفراً في التاريخ الأميركي. فقد قطعت، بحسب إحصاء حديث، 843485 ميلاً وزارت 102 بلداً. (كان هذا قبل رقصتها الأفريقية الأخيرة؛ لا شك في أن المعنيين سوف يُراجعون الأرقام). في إحدى جولاتها، تناولت الفطور في فيتنام، ثم الغداء في لاوس، والعشاء في كمبوديا. رسمياً، إنها دائماً الشخص المسلّي والمفعم بالحيوية الذي يلفت الأنظار إليه.
إنه تتفيهٌ للسياسة الخارجية. إذا كُتِب عن وزير خارجية ترومان، دين أشسون، أنه كان "حاضراً لدى إنشاء" منظومة الدول بعد الحرب العالمية الثانية، فإن المؤرّخين الذين يتكبّدون عناء الكتابة عن السيدة كلينتون سوف يعتبرون أنها كانت تضيّع الوقت، في ما يشهد على تآكّل السلطة الأميركية في المنظومة الدولية.
بعد تسلّم منصبها في مطلع عام 2009، أوضحت أنه ستتم التضحية بـ"أجندة الحرّية" التي وضعتها الإدارة السابقة. فهي لم تتورّع عن الإعلان في نيسان من العام الماضي بأن "الأيديولوجيا هي من الزمن الغابر". هذا ما أراده رئيسها منذ البداية. فحامل لواء التغيير في الشؤون الدولية، الرجل الذي أسر الحشود في باريس وبرلين والقاهرة، كان في الصميم متقلّباً في مواقفه، وخجولاً بشأن إمكانات أميركا خارج حدودها.
يستطيع الرؤساء ووزراء الخارجية، عندما يعملون معاً، أن يغيّروا مسار التاريخ. لنأخذ على سبيل المثال ترومان وأشسون وتلبيتهما لنداء التاريخ عندما لم يعد بإمكان البريطانيين تأدية دورهم الإمبريالي. وبالمثل، دفع رونالد ريغان وجورج شولتز بالشيوعية السوفياتية نحو قبرها، ومنحا الشعب الأميركي الثقة بعد الانتكاسات الديبلوماسية في السبعينات والإذلالات التي تعرّضت لها السلطة الأميركية في عهد جيمي كارتر. يجب أن نفي باراك أوباما وهيلاري كلينتون حقّهما. لقد عملا جيداً معاً، وترأسا انكفاء النفوذ الأميركي، وراهنا على أن الأميركيين لن ينتبهوا، أو يكترثوا لتراجع السلطة الأميركية في الخارج. وهذا ليس بالإنجاز الصغير.
بيد أن لافاعلية وزيرة الخارجية الحالية غير مسبوقة. لم تترك السيدة كلينتون أي بصمة على قرار تصفية الوجود الأميركي في العراق - كان مستشار الرئيس الأساسي حول العراق نائبه جو بايدن. ولم نسمع منها الكثير عن أفغانستان، ما عدا تصريحها الشهر الفائت بأنها "حليفة أساسية غير عضو في الناتو". وافتتحت عاصفة الربيع العربي بسوء قراءة فادحة لمصر، فقد قالت إن حسني مبارك كان "صديقاً لعائلتي"، وكان حكمه مستقرّاً. وسوف تُربَط لفترة طويلة بالتنازل والسفسطة السياسيين اللذين طبعا مقاربة هذه الإدارة للثورة السورية.
لا تسأم السيدة كلينتون التي لا تستثمر أي شيء في سوريا ما عدا الكلام، من إثارة شبح انضمام الجهاديين إلى القتال: "من يحاولون استغلال الوضع بإرسال مقاتلين إرهابيين عليهم أن يدركوا أنه لن يُسمَح لهم بذلك، ولا سيما من جانب الشعب السوري".
تتعرّض حلب، هذه المدينة القديمة والمزدهرة التي تُعتبَر عاصمة البلاد التجارية والاقتصادية، والتي تنهال عليها القذائف وكأنها مدينة أجنبية، لمعاملة بربرية، أما السيدة كلينتون فتكتفي بالقول "يجب أن نحدّد توقّعات واضحة جداً بشأن تفادي الحرب المذهبية".
لقد انزلقت سوريا، كما كان محتوماً، إلى نزاع طويل، وحرب أهلية ومذهبية شاملة بين الأكثرية السنّية والعلويين الذين يمسكون بزمام السلطة. لكن السيدة كلينتون ليس لديها ما هو أفضل من هذه الملاحظة التافهة والمبتذلة لتقوله: "يجب أن نجد طرقاً للتعجيل في وصول اليوم الذي يتوقّف فيه حمام الدماء ويبدأ الانتقال السياسي. يجب أن نحرص على سلامة مؤسسات الدولة".
لقد صدر هذا الكلام عن شخص يهدر الوقت على حساب السوريين، ويحاول كسب الوقت لصالح رئيس سلّمها المنصب وهو يعلم أنه سيكون هناك في وزارة الخارجية شخصية سياسية مثله وليس شخصية ديبلوماسية مؤمنة بالنفوذ الأميركي والوزر الذي تتحمّله الولايات المتحدة في العالم.
لا داعي لأن يكون المرء تهكّمياً بإفراط ليقرأ فكر وزيرة الخارجية وفكر المخطّط الاستراتيجي السياسي الأقرب إليها، زوجها بيل كلينتون. لقد تأقلما جيداً مع الهزيمة التي ألحقها بهما أوباما عام 2008. فقد انضما إلى ركبه من دون التخلّي عن حلم ردّ الاعتبار. لافاعلية وزيرة الخارجية كلينتون، والدور المناط ببيل كلينتون في مؤتمر الحزب الديموقراطي والذي يجعل منه الشخص الوحيد الذي قد يُطمئن الوسطيين والمستقلين إلى أن باراك أوباما هو ضمن الخط السياسي الأساسي للحزب، يشكّلان استثماراً في المستقبل. في الصباح الذي يلي الانتخابات الرئاسية، سيكون الزوجان كلينتون جاهزَين. سوف ينتظران فوز أوباما ثم يبدآن بسحب السلطة منه شيئاً فشيئاً.
وفي حال مُنيَ أوباما بالهزيمة، فسوف يهبّان لنجدة حزب مصاب بالتروما. ستزعم السيدة كلينتون أن سيرتها المهنية باتت غنيّة ومكتملة. لن تحتاج إلى تكرار الروايات الخيالية عن الهبوط في البوسنة تحت النيران عام 1996؛ ففي رصيدها الآن كل تلك الأميال التي قطعتها. لن تأتي أبداً على ذكر الآمال التي عقدتها في البداية على الرئيس السوري بشار الأسد الذي رأت فيه شخصية إصلاحية، وكذلك المذبحة التي ارتكبها بحق شعبه. سوف يزعم محبّوها أن كل شيء كان على ما يرام في وزارة الخارجية، وأن هيلاري أتقنت مهمّتها من خلال ما يحلو لها أن تسمّيه "ديبلوماسية من الناس إلى الناس".