شراع

 

المدرستان الإيرانية والسورية ودروسهما المجانية في علم السياسة

 

ليس مبالغة القول إن المدرستين السياسيتين؛ الإيرانية بدهائها الفارسي، والسورية بدهائها الأموي تقدمان دروسًا مجانية في علم السياسة، ودور الصبر والتأني في إدارة الملفات الشائكة وقوة التحكم في الموقف، والحفاظ على التوازن لحظة الوصول إلى حافة الهاوية، وتحاشي السقوط المدوي.

فطوال الأزمة السورية وإلى الآن لعبت القيادتان الإيرانية والسورية دورًا أساسيًّا وأثبتتا الدهاء والحكمة والقدرة على المناورة في التخلص من شراك الأعداء، ما أعطى دورهما قوة دفع لمحركات الدبلوماسية الروسية لأن تواجه عواصف الغرب الامبريالي الاستعماري التي تسعى إلى اقتلاع سوريا من الخريطة الجغرافية في المنطقة؛ لكونها الناقل الحقيقي نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتدمير منشآتها النووية.

لقد شكلت القيادات الثلاث الإيرانية ـ السورية ـ الروسية، ومن ورائها دول البريكس، حالة انسجام وتكامل في المواقف، والعمل على تنشيط الوعي العالمي وانتشاله من حالة الخمول والاستسلام لإرادة القطب الأوحد، بأن العالم يشهد تغيرًا حقيقيًّا ويتهيأ لولادة قطبية متعددة، تمكن هذا العالم من السير على قدمين مستويتين بعد أن كان بطة عرجاء.

وتأتي موافقة سوريا على تفكيك ترسانتها الكيماوية والانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار الكيميائي، ومن ثم صدور القرار الأممي رقم (2118) بتفكيك السلاح الكيماوي السوري خاليًا من الفصل السابع الذي يتيح استخدام القوة، انعكاسًا مباشرًا لحالة الانسجام والتكامل في المواقف الإيرانية ـ السورية ـ الروسية، وتعبيرًا عن إرهاصات الولادة القطبية الجديدة، خاصة بعد أن كشف الرئيس الأميركي باراك أوباما عن إجرائه اتصالًا بنظيره الإيراني حسن روحاني والاتفاق معه على تشكيل فريقين لبحث المسائل العالقة بين بلديهما حول الملف النووي الإيراني.

إن التقدم السريع نحو إنجاز الاتفاق الروسي ـ الأميركي حول السلاح الكيماوي السوري، بالتزامن مع الانهيار اللافت لما يسمى "الائتلاف الوطني السوري" المعارض ومجموعاته الإرهابية والسيطرة اللافتة لتنظيم القاعدة الإرهابي، وكذلك بالتزامن مع الرمي الأميركي المتكرر للحصى في المياه الراكدة لملف التقارب الإيراني ـ الأميركي، إن هذا التقدم يعطي إشارات ودلالات مهمة مع عدم إغفال أن لا شيء محرم في السياسة ما دامت هي فن الممكن:

أولًا: دون مبالغة، مثلما كان القبول السوري عبر الوساطة الروسية بتفكيك الترسانة الكيماوية السورية بمثابة السلم للرئيس أوباما لإنزاله من أعلى الشجرة التي اعتلاها بخطوطه الحمراء، وسكب ماء باردًا على رؤوس المتآمرين على سوريا وتجار الحروب وأدواتهم الإرهابية، فإن قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2118) بتفكيك السلاح الكيماوي السوري قد سكب مزيدًا من الماء البارد على رؤوسهم.

ثانيًا: مثلما أسقط المحور السوري ـ الروسي ـ الإيراني، خيار العدوان لمعسكر المؤامرة، أسقطت سوريا وصمودها، شعبًا وجيشًا وقيادةً، الرهان الأميركي على الوقت لتحقيق ما يسمى "التوازن على الأرض" عبر العصابات الإرهابية التي تتلقى الضربات الموجعة من قبل الجيش العربي السوري والتي لا تزال صنابير الدعم المالي والتسليحي مفتوحة لها عن آخرها. وهنا الذاكرة تعود بنا إلى تصريحات حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله التي نصح فيها تلك العصابات الإرهابية بمغادرة سوريا، وأنها جيء بها إلى الفخ السوري، والتي نصح فيها المتآمرين أيضًا بأن الرهان على الحل العسكري والإرهاب لن يجدي نفعًا في حل الأزمة، وإنما الحل هو الحل السياسي.

ثالثًا: السقوط المدوي لما يسمى "الائتلاف الوطني السوري" المعارض وانهيار مجموعاته الإرهابية، وانفراط عقده بانضمام أغلب المجموعات الإرهابية التابعة له إلى تنظيم القاعدة الإرهابي، انهيار بصورة دراماتيكية وغير متوقع، وما الدعوات التي يرسلها لداعميه والمراهنين عليه تارة بالادعاء أن مجموعات إرهابية أجنبية سرقت "الثورة" السورية، وتارة أخرى محذرًا من حسم الصراع لصالح العصابات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة، إلا تعبير عن استجداء لإنقاذه من ورطته، وقد قال هيثم مناع رئيس هيئة التنسيق الوطنية في المهجر إن ما يسمى "الجيش السوري الحر" سيلجأ إلى الجيش العربي السوري للتخلص من القاعدة. وهنا أيضًا تعود بنا الذاكرة إلى اجتماع ما يسمى "مؤتمر أصدقاء سورياحين أرعد وأزبد ما يسمى "الائتلاف" المعارض من سيده الأميركي، وذلك حين أدرجت الخارجية الأميركية ما يسمى "جبهة النصرة" في قائمة الإرهاب، حيث شدد ولا يزال يشدد حتى وقت قريب على أن "النصرة" الإرهابية ومشتقاتها هي رأس حربة له في تدمير سوريا وقتل الشعب السوري، ولا أدري ما إذا كان هذا "الائتلاف" الصنيعة الخارجية، يتذكر هذه المواقف ويعض أصابع الندم وهو يرى فلوله تتساقط بضربات "النصرة" ومشتقاتها، ويرى ذاته خارج التغطية، ومن المحتمل عما قريب أن يحال إلى تقاعد مبكر وعدم مشاركته في مؤتمر جنيف الثاني، بعد سقوط الرهانات عليه.

رابعًا: من الوارد أن تكون هناك ضمانات وتطمينات إيرانية ـ روسية ـ صينية للولايات المتحدة بتسهيل انسحابها من أفغانستان وتولي هذه الدول الثلاث تأمين الاستقرار في تلك الدولة، وربما ليس مصادفة أن تعلن الصين استعدادها والتزامها بإعادة إعمار أفغانستان، مقابل التحرك في الملفين الشائكين: الأزمة السورية والملف النووي الإيراني.

خامسًا: التسوية في الملفين النووي الإيراني والأزمة السورية بما فيها ورقة الترسانة الكيماوية، سترتب التزامات أميركية بإجبار حليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الصهيوني على الانضمام إلى المعاهدات الدولية الخاصة بالنووي والكيميائي.

سادسًا: من غير المستبعد ـ إذا ما سارت المساعي السلمية في طريقها الصحيح حتى النهاية ـ أن تتحمل الدول المشاركة في مؤامرة العدوان والتدمير في سوريا تبعات أفعالها الشائنة بالمشاركة في إعادة إعمار سوريا.

الخلاصة، يبقى التأكيد على أن لا شيء ثابت في السياسة، كل أمر وكل موقف قابل للتغير في أكثر من اتجاه وموضع.

 

خميس بن حبيب التوبي

khamisaltobi@yahoo.com