مدارات - أبو عمار مقصوفاً بمفاعل ذري
عدلي صادق
لم يكن أحدٌ، يشك في حقيقة أن الزعيم الوطني الشهيد ياسر عرفات، قضى مسموماً. هناك عشرات المؤشرات، التي أفصحت عنها تصريحات واتصالات ومواقف، أفادتنا مبكراً، بأن المحتلين قرروا اغتياله، بعد أن تخلى عنه زملاؤه في نادي رؤوس "الشرعيات" العربية، وضاقت به وبمواقفه الوطنية الصلبة، الأوساط الحاكمة في الغرب قاطبة، وفي بعض الشرق، وهي الأوساط ذاتها التي احتفت به، عندما جعل التسوية المتوازنة نسبياً، خياره الاستراتيجي، بعد أن جرّب كل الطرق الى خيار سواها!
حكومة الاحتلال العنصرية، التي انقلبت على العملية السلمية، وجاهرت برفضها جملة وتفصيلاً، وباعتزام إفشالها، عندما كان أقطابها وعناصرها ما زالوا في المعارضة؛ جعلت مسار تلك العملية السلمية عقيماً وغير ذي سياق. وبدل أن يقف الغرب ومعه نادي رؤوس "الشرعيات" العربية، مع الطرف المتمسك بعملية سلمية معقولة يُكتب لها النجاح، تكالب الجميع على ياسر عرفات، ومن بين هذا الجميع، من أدانه وحمّله المسؤولية عن انسداد الأفق، ومنهم من تعمّد مقاطعته وتجاهله وتركه يواجه مصيره الشخصي. كان ذلك الجميع، يتوهم بأن الزعيم الفلسطيني هو العقبة التي تحول دون التوصل الى تسوية هزيلة. فما أن يغيب، حتى يحقق المحتلون أهدافهم وفق الصيغة التي يريدون!
* * *
في الجنائز الثلاث، لتشييع الزعيم الفلسطيني، كان واضحاً أن ثمة مسكوتاً عنه في واقعة الموت وأسبابها، وأن بعض الذين شاركوا في التشييع، من الإقليم ومن العالم، يعرفون بدرجات متفاوتة، أن الرجل مات مسموماً. بل إن حفنة منهم، أثقل الموت الغادر ضمائر أصحابها، فشاركوا تخففاً من هواجس وكوابيس. التاريخ وحده، سيكشف الأدوار، قبل أن تنكشف أسماء المتواطئين الذين أوصلوا المادة السُميّة المشعّة الى جوفه (عبر قرص دوائي على الأرجح). وما فعلته "الجزيرة" في تحقيقها الاستقصائي، لم يأت إلا بجديديْن، ثانيهما ينشأ على الأول: أن هناك سُماً معلوم الخواص، هو "البولونيوم" كان وما زال موجوداً في متعلقات الرجل، وبالتالي فإن الشهيد المغدور ياسر عرفات لم يمت بسم مجهول. وآثار هذا السم، حاضرة وفي مقدور أبسط مختبرات التحليل اكتشافه!
الجديد الثاني، هو أن تجهيل سبب الموت، كان متعمداً، وهو قرار سياسي وليس طبياً ولا معملياً. من هنا ينشأ افتراض التواطؤ الإقليمي والدولي، الذي لا تدحضه الحفاوة عند التشييع!
* * *
أبو عمار الكبير الكبير، قضى بسم على قدر حجمه، لا تنتجه سوى المفاعل النووية العظمى. لم يكن من ذلك العيار الذي تليق به جرعة من الزئبق السام، أو من سم الفئران. هو، إذاً، مقصوف بالنووي، لأنه أصلاً، له خصائص ذرية، تنشطر وتندمج فيها أنوية عمل، وتشكل مصدراً لا ينضب للطاقة.
الذين قصفوه بالنووي، توهموا أنهم أجهزوا على الأمنية الفلسطينية. كأن هيروشيما نفسها، توارت عن الأنظار أو اندثرت. بالعكس، هيروشيما أصبحت مزاراً لكل من يرغب من شعوب الدنيا في التأمل، وفي معرفة المدى الذي يمكن أن يصل اليه الظلم وتصل اليه الجريمة. أهل هيروشيما حاضرون ومتفائلون يا اميركا ويا إسرائيل. وأبو عمار لم يكن يفعل شيئاً غير أنه يلخص برجولة كل المستحيل الفلسطيني، مع كل الممكن الفلسطيني.
لسنا الآن في مرحلة اكتشاف مجمل الحقيقة بأسمائها وأدواتها وأوقاتها. نحن بصدد اسم السم وخاصيته. النوايا المسبقة للقتل معلومة مبكراً، والمتواطئون مجهولون بأسمائهم، ومعلومون بالوجهة السياسية العامة، والعملية استخبارية بامتياز. وينبغي التذكير، في هذه اللحظة، أن من يفتح حديثاً عن افتراضات ظنيّة، عن أدوات فلسطينية استُخدمت في الجريمة، إنما هو يختلق إشاعات يريدها مسممة لمناخ ثقتنا بأنفسنا. فلا يمكن لعناصر ذات أدوار قيادية، أن تساعد في رمي القنبلة الذرية الصغيرة، الى جوف أبي عمار، لأن هذا الفعل الخياني الشائن، ليس من تقاليدنا، ويخالف طبائع ومشاعر العلاقات التي أرساها أبو عمار بينه وبين العاملين معه، عند التناغم أو عند الاختلاف. ذلك فضلاً عن أن القتلة المحتلين المنقلبين على التسوية، والمهاجمين بدباباتهم في وضح النهار لمقر ياسر عرفات، ليسوا قاصرين عن القتل بوسائل النيران، أو بوسائل استخبارية!
www.adlisadek.net
adlishaban@hotmail.com